معادلة ولي العهد محمد بن سلمان وتخبط واشنطن وإرهاب طهران

✍️طارق عبدالكريم الطائي- رئيس لجنة العلاقات الخارجية لاتحاد الشباب العربي في كندا وامريكا
“نتحفظ بحق فرض العقوبات على ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان”،بهذا التصريح الخارج عن قواعد وأصول الدبلوماسية المتعارف عليها في العلاقات الدولية أجابت متحدثة البيت الأبيض على أسئلة الصحفيين حول الإجراءات التي قد تتخذها واشنطن حيال ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان بعد صدور تقرير وكالة الاستخبارات الوطنية الأمريكية حول مقتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي وفرض واشنطن قيودًا على تأشيرات ٧٦ شخصية سعودية ليس من بينهم ولي العهد.
على ما يبدو أن متحدثة البيت الأبيض وجدت نفسها محاصرة بأسئلة الصحفيين المحرجة وأرادت التخلص من الموقف بتلك العبارة التي لا تقال عادة إلا في حالة وقوع اعتداء عسكري على دولة ما،حيث تسارع الإدارة السياسية لتلك الدولة للإدلاء بهذا التصريح الروتيني لحين الانتهاء من تقارير تقدير الموقف.
غير أن هذا التصريح يعكس في واقع الأمر تخبط الإدارة الأمريكية الناتج عن شعور الرئيس جو بايدن بوقوعه تحت ضغوط تنفيذ وعوده الانتخابية بشأن ملفات حقوق الإنسان وجعلها الركيزة الأساسية في إعادة صياغة علاقة الولايات المتحدة مع كافة الأطراف الدولية بما في ذلك حلفائها في الشرق الأوسط.
قبل أسابيع صدرت عدة تصريحات من الإدارة الأمريكية تؤكد على إعادة ضبط العلاقة مع المملكة العربية السعودية،وبدأت بالتأكيد على أن الرئيس الأمريكي لن يتصل بولي العهد السعودي،وأن أولى خطوات ضبط العلاقة أن يكون الاتصال مع جلالة الملك سلمان بن عبدالعزيز،ثم بدأ التلويح بنشر تقرير المخابرات الوطنية عن مقتل جمال خاشقجي والذي حجبه الرئيس السابق دونالد ترامب،لتتبعه عدة إجراءات من شأنها إعادة ضبط العلاقة مع المملكة.
وأخيرًا صدر التقرير خاليًا من أية دلائل جديدة تدين ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان،مستخدمًا صياغات ترجيحية غير يقينية مثل قوله “نرى أن بن سلمان ربما أمر بالقبض على خاشقجي أو قتل،ونرجح هذا الرأي بناءً على تقييمنا بأن ولي العهد يسيطر على صناعة القرار في المملكة”.
لا أعتقد أن محللًا سياسيًا أو كاتبًا صحفيًا يلتزم أخلاقيات عمله يجرؤ على التصريح بهذا الاستنتاج ولو في مقال رأي بصحيفة محلية تصدر في احدى المدن الأمريكية الواقعة على ساحل المحيط.
تقرير الاستخبارات الأمريكية جاء هو الآخر معبرًا عن حالك التخبط التي يعيشها البيت الأبيض،حتى أنه جاء في نسخته الأولى بقائمة شملت ثلاثة أشخاص تم حذفهم من نسخته الثانية بحسب وكالة الأنباء الأمريكية سي إن إن.
وفيما جاءت ردة فعل وزارة الخارجية السعودية متزنة عبر بيانها الذي رفض بحزم تقرير الاستخبارات الأمريكية والتدخل في الشئون الداخلية،مع التأكيد على استراتيجية العلاقة مع الولايات المتحدة،جاءت ردود الأفعال اللاحقة من البيت الأبيض أكثر توترًا.
ففي الوقت الذي تم فيه الكشف عن التقرير الاستخباراتي بهدف إدانة ولي العهد السعودي وتصعيد وتيرة الضغوط على المملكة،أكدت مصادر بالخارجية الأمريكية لصحيفة “نيويورك تايمز” والسي إن إن أن البيت الأبيض لم يطلب من وزارة الخارجية إعداد بدائل لاستهداف الأمير محمد بن سلمان،كما أكدت مصادر داخل البيت الأبيض أن مسألة فرض عقوبات على الأمير محمد بن سلمان لم تُطرح من الأساس،حيث أخبر الرئيس الأمريكي أن فرض أية عقوبات على ولي العهد سيؤدي إلى قلب المبادرات الأمريكية في منطقة الخليج،وخسارة الجيش الأمريكي مصالح عسكرية مهمة داخل المملكة.
ومع ذلك يمكن قراءة سلوك البيت الأبيض واستخدامه لورقة جريمة جمال خاشقجي متجاهلًا ما اتخذته المملكة السعودية من إجراءات قضائية حيال المتورطين في الجريمة انتهت بأحكام بالسجن تراوحت بين ٧ سنوات و٢٠ عامًا،باعتباره أولًا رسالة إلى أنصار الحزب الديمقراطي الذين صوتوا للرئيس جو بايدن،مفادها أن رجل البيت الأبيض الديمقراطي قادر على الوفاء بتعهداته،وثانيًا أنها محاولة لفرض تصورات الإدارة الأمريكية الجديدة بشأن ملفات الشرق الأوسط على حكام وشعوب المنطقة.
رغم سذاجة سلوك وأوراق الضغط التي بحوزة الإدارة الأمريكية،إلا أنه من المتعارف عليه في العلاقات الدولية أن الأطراف المختلفة قد تلجأ إلى تسيس بعض الملفات والقضايا لاستخدامها في إدارة مصالحها ومحاولة فرض رؤيتها أو حتى تواجدها على النحو الذي تريده،ويبدو أن المملكة السعودية تتعامل مع الأمر في هذا السياق،بيد أن ما تملكه المملكة من أوراق أكثر فاعلية من ورقة خاشقجي المزعومة،فمن ناحية وصفت المملكة جريمة مقتله بالبشعة وقامت بمحاكمة جميع المتورطين فيها والذين ارتكبوها بشكل فردي،ومن ناحية أخرى لم يعد الغرب الوجهة الوحيدة لعلاقات المملكة ومصالحها الاستراتيجية اقتصادية كانت أو سياسية أو عسكرية،إضافة إلى قدرة المملكة على الاستجابة الذكية للتحديات الجديدة بفضل المنهج الذي يتبناه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان.
لكن ماذا تريد إدارة بايدن؟! وما هي استراتيجيتها تجاه المنطقة؟!
على مايبدو أن الإدارة الأمريكية الجديدة تسعى لتكريس التوتر السياسي والعسكري في منطقة الشرق الأوسط وذلك بالحفاظ على توازن القوى بين الأطراف الإقليمية المؤثرة بما يسمح لها ممارسة سياسة الابتزاز للجميع طوال الوقت.
وكان قرار إدارة بايدن بإلغاء تصنيف جماعة أنصار الله الحوثية كمنظمة إرهابية أول شواهد تلك الاستراتيجية،إلى جانب إعلان رغبتها في العودة إلى الاتفاق النووي مع إيران،ورسائلها الإيجابية المتكررة والتي كان آخرها الترحيب بإلغاء قرار توبيخ طهران من جانب الوكالة الدولية للطاقة الذرية.
في هذا السياق لا يمكن قراءة الضربات الأمريكية لبعض المجموعات المسلحة التابعة لإيران في بلدة البوكمال السورية بالقرب من الحدود العراقية إلا في إطار وضع النقاط على الأحرف التي ستحدد مسار العلاقة بين واشنطن وطهران ونطاق دور الأخيرة في المنطقة .
لا يبدو أن إدارة بايدن مهتمة بالإرهاب الإيراني،بل قد ترى في أذرعه المتواجدة باليمن والعراق ولبنان وسيلة لتكريس مفهومها لتوازن القوة في المنطقة فلا هي تهدد المملكة بشكل حقيقي ولا المملكة ومعها دول الخليج تستطيع وقف هجماتها الإرهابية التي تستهدف المدنيين بالدرجة الأولى.
مثل هذا الوضع نموذجي بالنسبة لواشنطن فهو يمكنها من ممارسة الضغوط على الرياض وطهران بما يخدم مصالحها هي.
غير أن الأوضاع الإقليمية والدولية دفعت المملكة السعودية الى الاستجابة لها على نحو يجعلها عصية على مساعي بايدن لفرض رؤيته،ويمكن القول إن ولي العهد الأمير محمد بن سلمان قد خلق معادلة جديدة تؤسس قواعد حديثة لوضع ومكانة المملكة إقليميا ودوليا.
فقد أدرك الأمير الشاب أن إصلاح الداخل وتطويره أولى خطوات بناء عناصر القوة الشاملة لمواجهة تحديات الخارج ،فكانت استراتيجية ٢٠٣٠وأعمدتها مواجهة التطرف الديني وتنويع الاقتصاد السعودي ومصادر دخله بعدم الاعتماد على الثروة النفطية فقط،ثروة ثقافية تنويرية بفتح المجال أمام الإبداع بكل صوره،تمكين المرأة لتكون شريكا للرجل لبناء المجتمع السعودي سياسيا واقتصاديا وثقافيا واجتماعيا،تحديث منظومة التشريعات والقوانين بما يتفق مع حقوق الانسان والشريعة الإسلامية،تطوير الصناعات المحلية وتوطين التكنولوجيا والاهتمام بالتصنيع العسكري إلى ذلك شرع في بناء تحالفات إقليمية قوية في مقدمتها الرباعي العربي،علاوة على فتح افاق جديدة للعلاقات السياسية والتجارية والعسكرية مع روسيا والصين.
معادلة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان جعلت من المملكة السعودية رقما صعبا في المعادلة الدولية وقوة إقليمية لا تستطيع فقط صد الضغوط الأمريكية وانما فرض رؤيتها بما يحقق مصالحها الحيوية،قوة قادرة على بناء تحالف إقليمي لردع الإرهاب الإيراني وقطع اذرعه بعيدا عن حسابات واشنطن.
✍️طارق عبدالكريم الطائي
رئيس لجنة العلاقات الخارجية لاتحاد الشباب العربي في كندا وامريكا